التداخل بين الفصيح والعامي في ضوء حاجة المبتدئين في تعلم العربية من غير العرب

التداخل بين الفصيح والعامي  في ضوء حاجة المبتدئين في تعلم العربية من غير العرب إعداد : الدكتور أحمد مختار الشريف مدير الشؤون التعليمية في معهد (عربي) بالرياض مقدمة بسم الله […]

التداخل بين الفصيح والعامي  في ضوء حاجة المبتدئين في تعلم العربية من غير العرب

إعداد : الدكتور أحمد مختار الشريف

مدير الشؤون التعليمية في معهد (عربي) بالرياض

مقدمة

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أفضل من نطق بالضاد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد؛

فاسمحوا لي أولا أن أتقدم بالشكر والتقدير نيابة عن إدارة معهد (عربي) بالرياض إلى فضيلة شيخ الأزهر الشريف سعادة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب على هذه البادرة التي تنبئ عن الاهتمام البارز بلغة القرآن الكريم والحرص على نشرها في الآفاق ، وبوصفها كذلك واحدة من اللغات القليلة بين اللغات العالمية المعتمدة في منظمة الأمم المتحدة ، آخذاً بعين الاعتبار أهمية الملتقى حول موضوعات منتقاة تباشر أهمّ ما يشغل بال العاملين في حقل تعليم العربية لغير أهلها المنتشرين في الدول المشاركة في هذا الملتقى الأزهري الجامع .

كما أشكر كل جهة سارعت إلى تلبية هذه الدعوة الكريمة وكلَّ مسؤول في مشيخة الأزهر الشريف سعى بكل طاقته ويسعى لإنجاح هذه التظاهرة اللغوية العربية .

ويعلم الجمع الكريم أن مؤسساتِ تعليم العربية لغير أهلها ومعاهدَه الرسمية والخاصة لا تقوم برسالتها على النحو الأكمل إلا إذا راعت حاجة الدارسين ورغباتهم ومقاصدَهم من تعلُّم اللغة من خلال ما تقدّمه لهم من مناهج ملائمة.

 

ويعلم الجمع الكريم أن الطلب الأكبر إنما يكاد ينصبّ على اللغة الفصيحة ، وهذا مأخوذ في الاعتبار في كلّ المؤسسات والمعاهد ذات العلاقة ، ولكن ثمة فئة عظيمة من الراغبين في تعلم العربية يهمها -إلى جانب المعرفة باللغة الفصيحة- أن تقوم بنجاح في تحقيق التواصل اللغوي مع أفراد لغة مجتمع اللغة الذي تقع فيه تلك المؤسسات والمعاهد ، فإن تمكنت هذه المؤسسات والمعاهد من إيجاد وثيقة تؤسس لتلبية هذا النوع من الاحتياج المزدوِج مع المحافظة على اللغة الفصيحة التي تعدّ في نظامها اللغوي الصورة الكاملة في الإحكام والإبانة والبلاغة والدقَّة والإشراق ،

 

أقول : إن تمكنت تلك الجهات من تقديم عون حقيقي يربط بين اللغة الفصيحة وما ورد منها في اللغة الدارجة على نحو من الأنحاء دون أن يمسّ مثَلَنا اللغويَّ الأعلى فهذا يعدّ نجاحا لنا جميعاً . أما هذه الأنحاء التي ذكرت فهي موضوع هذه الورقة البحثية التي أتوجه بها إليكم حفظكم الله ورعاكم .

فئات المتعلمين من غير العرب

يمكن مبدئياً تصنيف فئات المقبلين على تعلم العربية من غير العرب من ناحية توجهاتهم وأهدافهم في أربع فئات :

1- فئةٍ تُقبل على دراسة العربية للوقوف على كتب التراث العربي والإسلامي ابتداء من القرآن الكريم وتفاسيره ، والحديث النبوي وشروحه ، إلى سائر المؤلفات الشرعية . وهذه الفئة إنما يهمها تعلمُ اللغة العربية الفصحى (Classic Arabic) ؛ لأنها المفتاح إلى كتب التراث العربي الإسلامي بعامّة . وينبغي أن يُهيّأ لهذه الفئة برنامج تعليمي خاصّ بها في المعاهد التي تعلم العربية لغير العرب . وينضوي تحت هذه الفئة طائفتان : المسلمون من غير العرب ، والمستشرقون . وليس هذا موضعَ مناقشة احتياجات هذه الفئة ؛ لأنها خارجة عن نطاق هذا البحث .

2- فئةٍ تقبل على دراسة العربية بغرض تنمية العلاقات التجارية والدبلوماسية مع الأقطار العربية فيما يخدم أهدافها السياسية والاقتصادية ، ويزداد أفراد هذه الفئة مع ازدياد أهمية الدول العربية من الناحيتين السياسية والاقتصادية يوماً بعد يوم . وهذه الفئة يهمها التعرف على اللغة العربية الرسمية المعاصرة ( لغة الصحف ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية ولغة المخاطبات الرسمية والكتابات المعاصرة ) . وهي – بطبيعة الحال- ترغب في تعلم اللغة العربية الفصيحة المعاصرة Modern standard Arabic) (

3- وثالث هذه الفئات تلك التي تريد الاندماج في الحياة العربية والاحتكاك بعنصرها البشري المتوزع على الأقطار العربية . وهذه الفئة ترغب في إتقان اللغة العامية التي يتكلمها الناس في حياتهم اليومية وأسواقهم … وغالباً ما تكون هذه الفئة غير مهتمة بتعلم القراءة والكتابة؛ لأن الشائع في العامية المحضة عدم الكتابة بها . ولا شكّ أن دور المعاهد المتخصصة في تعليم العربية قد لا يلبي احتياج هذه الفئة ؛ لأن الطلب عليها ضعيف بالمقارنة مع الفئات الأخرى الراغبة في تعلّــــم العربية ، ولأن انشغال هذه المعاهد بتعليم اللغة الفصيحة السهلة لم يتح لها التفرغ لتعليم اللهجات العامية التي تختلف من بلد عربي إلى آخر بل من مدينة إلى أخرى في كثير من الأحيان .

4- والفئة الرابعة تشتمل على الراغبينَ في تعلم العربية الذين يهمهم أمر اللغة المقروءة المكتوبة التي تستخدم في الحياة الرسمية (Modern standard Arabic) في الوقت الذي يهمها فيه أيضاً التعاملُ مع الناس في حياتهم اليومية . وهذه الفئة بالتعيين هي التي يستهدفها هذا البحث.

الفئة المستهدفة بهذا البحث :

أحبُّ أن أوضِّحَ هنا مؤكِّداً أن هذا البحث خاصّ جداً ولا ينبغي تعميمه على سائر الفئات التي تتعلم العربية ولا على كافة المستويات فيه ، فهو للمبتدئين في أيامهم الأولى ، وهو للفئة التي ترغب في تعلم اللغة الفصيحة المستعملة في الإذاعة والتلفاز والصحافة والخطابات الرسمية إلى جانب رغبتها في امتلاك القدرة النسبية على الاتصال اللغوي بمجتمع اللغة المحلّي .

مشكلة البحث

يتصدّى هذا البحث لمشكلة تواجه فئةً من المبتدئين في تعلم العربية وهم في أيام دراستهم الأولى للعربية ، فعندما يكون هدف المبتدئ تعلّمَ العربية الرسمية الفصيحة ليتمكن من القراءة والكتابة والفهم ، فإن نسبة كبيرة من هؤلاء المبتدئين  يهمهم أيضاً أن يتمكنوا من الاتصال بأفراد المجتمع المحلي للدولة المضيفة ، وأن يتعايشوا معهم. أما المشكلة لدى أفراد هذه الفئة فتكمن في أن الغالبية العظمى منهم تعتريهم حالة من خيبة الأمل منذ الأيام الأولى لدراستهم العربية ؛ ذلك أنهم  حين ينطلقون من عقال جلسة التعلم من بين جدران أربعة سرعان ما يتوجهون إلى أفراد المجتمع المحلي وكلهم رغبة في أن يقطفوا نتائج سريعة مستخدمين مفردات تعلموها في صف دراسة اللغة الجديدة  ، فإذا بهم يصعقون عندما يجدون أنفسهم أمام لغة أخرى غير التي سمعوا مفرداتها في الفصل! فلو ذهب أحدهم إلى البِقالَة يُريدُ أن يشتريَ بعض الحوائج من الطعام والشراب بادر إليه البائع قائلاً باللهجة السعودية مثلاً : [ إيش تَبغي ؟ ] كما هي الحال في اللهجة الدارجة لدى أهلِ جُدَّة ، أو [ إيش تبي ؟ ] في لهجة أهل الرياض ، وأما في مصرَ فيقول البائع : “عاوِز حاجَة؟ “[1] وفي لهجة مصرية أخرى ربما قال له : [ عايز حاجة ؟] مع أن ذلك

 

المبتدئ في تعلم العربية  كان يَتوقع أن يقال له : ” ماذا تُريد ؟ ” ومع كلّ هذا فهو قادرٌ على أن يستنتج من الموقف اللغوي أن البائع يريد أن يقول له : “ماذا تريد؟”  ، فيتظاهر بالفهم ويقول بنبرة الواثق الذي فهم بعض مفردات اللغة العربية:  “أريدُ خُبزاً وجُبناً ولَبَناً ” ، وسرعان ما تتصاعد الأزمة هنا لدى متعلم اللغة الجديد حينما يرى ابتسامة عريضة ترتسم على وجه البائع مصدرها الاستغراب والدهشة ، ولكن المتعلم الجديد يفهم منها فوق ذلك ، وقد يقوده تحليله الآنيُّ للموقف إلى أن البائع ينظر إليه نظرة استهجان أو تهكُّم !! وكم من مرَّة سمعت من طلبتي المبتدئين في تعلم العربية يقولون بحرقة شديدة : يا أستاذ ، لماذا حين نذهب إلى السوق ونكلم البائعين بما تعلمناه يضحكون ؟

وهذا القول كان يترك في نفسي – شأني شأنُ كلِّ معلم – أموراً وعددا من الأسئلة :

1- كيف السبيل إلى الحدِّ من درجة خيبة الأمل التي يشعر بها المتعلم في أيامه الأولى من دراسة اللغة ؟

2- هل كل ما في لغة الشارع لا يمتّ إلى اللغة العربية الفصيحة بسبب؟

3- وإذا كان الجواب بـ (لا) – وسيكون كذلك في تقديري – فكيف السبيل إلى التقليل من مستوى حالة الاغتراب والازدواجية التي يشعر بها المبتدئ في تعلم العربية ؟

4- ما المنهج الذي يمكن أن نسلكه في تعليم العربية لغير العرب مع الدروس الأولى – التي يحسم المتعلم أمره فيها ويقرر الاستمرار بتعلم اللغة الثانية أو الانسحاب- لتحقيق هذا المطلب دون أن نمس اللغة العربية الفصيحة بضَرَر؟

إن هذه الأسئلة هي ما يمكن تسميته بـ ( أسئلة البحث ) بعد أن تمّ لنا بحمد الله عرضُ مشكلته.

رؤية معهد (عربي) بالرياض في تعليم العربية للمبتدئين من الفئة الرابعة

أبدأ هنا بالتذكير بأن الفئة الرابعة هي التي يرغب أصحابها من متعلمي العربية من غير أهلها في أن يتعلموا اللغة الفصيحة قراءة وكتابة وفهماً ، وأن يلموا – في الوقت ذاته- من لغة مجتمع اللغة المحلّي بما يسدّ احتياجهم إلى التفاهم والحديث مع عامة أفراد مجتمع اللغة .

ومع أن معهد (عربي) يعدّ معهداً حديثَ النشأة حيث تأسس عام 2009 للميلاد ،فقد  وضع القائمون عليه نصب أعينهم أن يكون بيت الخبرة في تعليم العربية لأهلها ولغير أهلها ، وهو يسعى إلى إنتاج كتب وبرامج تعليمية لاندّعي لها الكمال ولكنها قد تحتلّ موقعاً في مسيرة تسهيل تعليم العربية ونشرها .

ونعود إلى مشكلة البحث الرئيسةِ فنقول : نظر المختصّون في المعهد في اللغة العامّية أو الدارجة وهي ليست في اعتبارهم اللغة المقابلة للفصحى كما في بعض تعريفات العامّية[2] ؛ لأنّ في ذلك ترسيخاً للتناكر الكامل الذي لايدع مجالاً لشيء من المقاربة ، بل هي كما ذكر المعجم العربي الأساسي في أحد قوليه[3] : “كلام الناس أو أحاديثهم العاديّة  … “

وقد حاولنا أن نقوم بتسجيلات صوتية لنصوص عشوائية جاءت في كلام عامة الناس (في السعودية نموذجاً) فوقفنا على إضاءات وحقائق مهمة تحتاج إلى دراسات أوسع تستنبط منها نتائج أوثق ، ونسبٌ تكرارية لمظاهر متعددة صادرة عن تحليل تلك النصوص .

وقد تبين لنا من استنتاجات أولية ما يلي :

1- أن نسبة لاتقل عن ستين بالمئة من المفردات هي لمفردات فصيحة وشائعة قي الفصحى وفي لغة عامة الناس . ( كرسي – كتاب – باب – صلاة – صيام – لبَن – خبز – لَحم – خريطة – فُلوس – ناس – طيارة – جبل – سهل – تَعال – اِجلِس….) فهذه المفردات وكثير كثير غيرها موجود معروف على ألسنة العامّة .

2-     أن نسبةً ذاتَ دلالة هي لمفردات غير شائعة في الفصحى المعاصرة ولكنها فصيحة وتعترف بها المعاجم العربية . مثل (هذي) للمؤنث : فهي شائعة في العامية الخليجية في موضع ، (هذه) الشائعة في الفصحى،  ولا أكاد أذكر من شيوع (هذي) في الفصحى سوى بيتٍ لحافظ إبراهيم رحمه الله :

  هذي يَدي عن بني مِصرٍ تُصافِحُكُم     فصافِحُوها تُصافِحْ نَفسَها العَرَبُ

3-          أن نسبة كبيرة هي لمفردات وتراكيب ذات أصل فصيح وقع عليها بعض التغيير في المدود القصيرة والطويلة والإبدال والإعلال ( الفتحة والضمة والكسرة – والألف والواو والياء ) والقلب المكاني وقلب بعض الحروف . وهذه التغييرات هي ضروب يقع في الفصحى أشباهها كاختلاس الحركات والإشباع وإبدال حرف من حرف في النطق كقلب القاف جيما كما في اللهجة العامية المصرية (الجيم القاهرية) حيث يقول الخليجي :(قال : gal ) ، ويقوم بحذف حرف كما في (تبغي: تبي ) في لهجة وسط الجزيرة العربية .

4-          لعلّ أهم فرق بين العامية والفصحى أن الأولى لغة إعراب والثانية لا إعراب فيها ، وهذه الظاهرة تدلّ على دقة الفصحى ورقيها وإبانتها وشجاعتها في التصرف في مواقع الكلمات في التراكيب لغايات بلاغية ذكرها علماء البلاغة في باب التقديم والتأخير ، كما أنها تدلّ كذلك . على أن عدم اعتماد حركات الإعراب يقرب المسافة بين اللغة الفصيحة ولغة الشارع كثيراً ، ويكفي شاهدا على ذلك ما سبق أن أوردناه من عبارة المبتدئ بتعلم اللغة في حديثه للبائع ، وذلك قوله : “أريدُ خُبزاً وجُبناً ولَبَناً ” ، فلو أنه قال : “أبغي خبز وجبن ولبن” مستخدماً الوقف بين المفردات المتعاطفة وهو موضع الفاصلة ، ومستخدما لفعل فصيح وهو (أبغي)[4] لغلب على ظنّ البائع أن المتكلِّم من أهل السعودية !! فأين الشعور بالاغتراب في هذه الحال ؟


مؤشِّرات وحلول :

مما سبق تبين لنا أن بمقدور المعنيين بتعليم المبتدئين – الراغبين في تعلم اللغة الرسمية الفصيحة المعاصرة والراغبين في الوقت ذاته الاتصال بمجتمع اللغة بلغته الدارجة – أن يقوموا باتخاذ التدابير التالية  مرتبة بحسب أهميتها ووجاهتها  :

 

1- ألا يكون في الدورة التمهيدية التي تقدّم للمبتدئين مفردات غريبة على مجتمع اللغة بحيث يختار في تعليمه اللفظُ الفصيح المعروف الشائع على ألسنة العامة دون اللفظ المرادف له في المعنى على فصاحته إن لم يكن شائعاً في اللغة الدارجة . فمثلاً يختار لفظ (طيّارة) دون لفظ (طائرة ) في تلك الدورة ، وخصوصاً إذا كانت الدورة في تعليم المحادثة ، مع أن اللفظتين صحيحتان معروفتان في اللغة الفصيحة فالأولى اسم قياسي لآلة الطيران ، والثانية اسم فاعل من (طار) . كما يختار لفظ (شُبّاك) بدل (نافذة) و عبارة “بِكم هذي ؟ ” بدل بِكَم هذهِ ؟ ” في الإشارة إلى المؤنث . وأشير إلى أن هذا الاختيار الأخير إنما هو يلائم المقيمين من غير العرب في دول الخليج العربي ، وقد لا يكون الأمر كذلك في سواها .

 

2- أن يُحرص في دورة المحادثة الابتدائية في تعليم غير العرب على مفردات شائعة في لغة العامة وفصيحة في الوقت نفسه ، وإن كانت غير شائعة في اللغة الفصيحة المستعملة (مفردات الصحافة ووسائل الإعلام ) ؛ ففي مجتمعات الخليج والشام ومصر والمغرب يشيع لفظ الفعل (شافَ/يَشوفُ ) وهو لفظ عربي صحيح معناه نظر و رأى مع تجاوز الفارق الضئيل في المعنى بين شاف ونظر لأن المعاجم تشير إلى أن (شاف) معناها : نظر من أعلى . ولكن لمّا كانت العامة تستخدمها بإطلاق معناها فلا بأس من تعليمها في دورة المحادثة الأولى بدلا من (نظر) ولو إلى حين . وقد شعرت بالعناء الذي يكابده المتعلم في أيامه الأولى وأنا أعلِّمة : ” أعطِني القَلَم ” فمع ثقل الهمزة في نطقها على العربي الذي يحاول في لهجته الدارجة أن يتخلَّص من أكثر حالاتها تأتي في عبارة (أعطني) متبوعة بحرف العين الذي يلتبس كثيراً مع صوت الهمزة لدى غير العرب ، هذا إن كانوا قادرين على نطق

الهمزة بطريقة ناجحة أصلاً!  ولست أبالغ حين أقول : كدت أحسّ حين أطلبُ من المتعلم أن ينطق (أعطِني) أنه يكاد يتقيّأ لما يجده من عنت في نطق الهمزة المتبوعة بالعين . ويمكن التخلص من هذا الموقف الممتنع باستخدام الفعل (هاتِ) ومع أنه ليس شائع الاستعمال كالفعل أعطى في اللغة الفصيحة إلا أنه صحيح وفصيح وخفيف على اللسان ، بل هو لفظ قرآني[5] فيقال : ” هاتِ الكِتاب ” وشتان مابين العبارتين من حيث السهولة من جهة ومن حيث انتشار (هات) على ألسنة العامة بنسبة عالية من جهة أخرى .

3- لا يستحسن في دورات المحادثة الأولى التي يقبل المبتدئ عليها أن تنطق مفرداتها مع حركة الإعراب ؛ وذلك لأسباب:

أولها :أن العامّة لا تسستخدم الإعراب في كلامها ، فكيف نطلبها من غير العرب المبتدئين الذين يرغبون في التواصل مع أفرادها !

والثاني : أن المبتدئ في تعلم العربية قد يبدو كلامه غريباً في لغة الشارع إن هو جاء به معرباً بالحركات ( كما تبين لنا من قبل في عبارة الزبون غير العربي للبائع ) وهذا الاستهجان لا يستحسن أن يقابل المتعلم وهو يسعى إلى التفاعل اللغوي والاندماج في مجتمع اللغة .

والثالث : أن الكبار في تعلمهم دائماً تتولَّد لديهم أسئلة عن أسباب تلك الحركات وليسوا كالأطفال في تعلمهم للغة يمرّرون التساؤلات التي تَعرض لهم ، والوقت لا زال مبكّرا على متعلم اللغة المبتدئ من الكبار أن يثقَل عليه بتعليلات النظام اللغوي (النحوي).

 

4- هنالك مفردات كثيرة تستخدمها العامّة في كلامها مع أن أصلها فصيح إلا أنه طرأ عليها في لغة العامّة بعض التحريف كتسهيل الهمز الذي يعدّ مقبولاً في كثير من الكلم الفصيح كما صرح بذلك العلامة شوقي ضيف رحمه الله[6] ، أو قلبِ بعض الحروف كقلب القاف جيما غير معطشة (g ) في دول الخليج ، وقلبها همزة في مصر والشام ، وكقلب الهمزة واوا  أو ياءً كذلك (قائل)   التي تنطق (قايل(g) ) في السعودية و(آيِل) في مصر والشام، فإن أدرك المتعلم المبتدئ في دروس المحادثة الأولى هذا التحريف عن اللغة الفصيحة أمكنه الربط بين ما يسمع وما تعلمه في درس القراءة من مفردات فصيحة فيتمكن من فهم الاثنين، وسنتناول بعد قليل الآليات التي يمكن اتباعها في هذه المسألة وما يجري مَجراها .

 

5- تستخدم العامة عبارات ذات أصل فصيح بعد أن تجري عليها أنواعاً من التغيير ، ومن ذلك قولهم في السعودية ” شْبيك ؟ ” وأصلها الأول ” أيّ شيء بك ” ، ثم صارت : “أيشٍ بِكَ ” ، (وقد دخلت أيشٍ في القرن الثالث الهجري على الراجح حتى في كلام المتأدّبين) ، ثم حذفت همزتها ، وانتقلت الياء إلى ما بعد الباء ، وسكّنت الشين ، ووُقف على الآخر بالسكون. ويقابلها في عامية مصر دون أدنى نحت قولُهم : “ما لَك ؟ ” وهي المعروفة في الفصحى كذلك ، والمكونة من (ما) الاستفهامية ، وخبرها الجارّ والمجرور ، وأتوقع أن تكون من العبارات التي ينبغي أن تختار مع العبارات الشائعة للاستخدام في دورات المبتدئين في مصر . ويستخدم أهل الشام عبارة ” بِدّي ” وأصلها بِوِدّي ، ويماثلها في الدارجة السعودية ( وُدّي )

في الآليات والوسائل :

لا بد إزاء ما عرضنا من تصنيف للمفردات المشتركة بين اللغة الفصيحة واللغة الدارجة أن ندرج هذا التصنيف في الجدول التالي ، ونقترح فيه الآليات المناسبة التي يحسن اتباعها حسب رأينا :

 

 

 

 

 

م حقل العمل اللغوي الإجراء المقترح له
 

1

 

مفردات شائعة في اللغة الدارجة وهي من اللغة الفصيحة المعاصرة

 

يحصر أكثر ثلاثمئة[7] مفردة شيوعًا في اللغة الدارجة ، بشرط أن تكون معروفة في اللغة الفصيحة المعاصرة[8] ، وأن تكون شاملة لأهم المواقف الاتصالية التي يتعرض لها المتعلم في مجتمع اللغة .

 

 

 

2

 

عبارات شائعة في اللغة الدارجة وهي من الفصيح المعاصر أيضاً مثل : “ما لك ؟”[9] المنتشرة في الدارجة المصرية مع صحتها قي اللغة الفصيحة

 

يحصر ما أمكن من العبارات التي تستوفي الشرطين السابقين لأنها كسب للمتعلم المبتدئ في الاتجاهين .

 

 

3

 

ما جاء من مفردات وعبارات شائعة في اللغة الدارجة وكان لها أصل فصيح مع وقوع بعض التحريف أو التغيير فيه[10]

 

لا تدخل في نصوص الدورات الشفهية للمبتدئ لعدم فصاحتها ولكنها تكتب في قائمة مع أصلها الفصيح إلى جانب نوع التغيير الذي طرأ عليها ، ليطلع عليها المتعلم ، ويربط بينها وبين أصلها الفصيح ، ويستأنس بها في تواصله اللغوي مع أفراد مجتمع اللغة.

النتائج والمقترحات

للقيام بالآليات السابقة أضع بين يدي هذا الملتقى اقتراحا تتعهد فيه جهة واحدة من كل قطر عربي بإجراء البحوث اللازمة لحصر الشيوع في اللغة الدارجة في دولتها وفق المعايير المطروحة في الفقرة السابقة للتوصل إلى :

 

1- قائمة شيوع بالمفردات المستخدمة في اللغة الدارجة لبلد الجهة التي تقوم بالبحث ، بحيث تكون من الفصيح المعاصر أيضاً ..

 

2- قائمة شيوع بالعبارات (التراكيب)  الفصيحة التي تستخدم في اللغة الدارجة لبلد الجهة التي تقوم بالبحث ، ولها وجود في اللغة الفصيحة المعاصرة .

 

3- قائمة بالمفردات ذات الأصل الفصيح المعاصر وقد وقع فيها بعض التغيير والتحريف في اللغة الدارجة لبلد الجهة التي تقوم بالبحث ، ويشار فيها إلى مواطن التحريف .

 

4- قائمة رابعة بالعبارات ذات الأصل الفصيح المستخدمة في اللغة الدارجة في بلد الجهة التي تقوم بالبحث ، مع وقوع بعض التحريف والتغيير فيها في اللغة الدارجة.

ثمّ ليتكون من كلّ ذلك أربع قوائم شيوع اثنتان منها (وهي الأولى والثانية ) لاعتمادها في نصوص تعليم المبتدئين من الفئة الرابعة المذكورة في هذا البحث[11] (في نصوص القراءة والمحادثة) ، والاثنتان الأخريان ليستأنس بهما المتعلم المبتدئ وهو يقوم بالتواصل مع أفراد المجتمع المحلّي .  ذلك أن إدراكه للعلاقة بين المستخدَم العامّي من المفردات والعبارات ، والأصل الفصيح لها يجعله دائما على ارتباط باللغة الفصيحة ويولِّد لديه حسّاً بالتغييرات المتوقعة في مفردات أخرى لم يتعرض لها بعدُ في لغة أفراد مجتمع اللغة.

هذا ، ويسرّني أن أنقل إلى ملتقاكم الكريم نيابة عن مدير معهد (عربي) بالرياض استعداد المعهد للقيام بالبحث المتعلق بالسعودية فيما يترتب على هذه الدراسة .

أشكر لكم حسن إنصاتكم والله المستعان على كلّ خير .


[1] ) على أن المعاجم أثبتت عازَ / يَعوزُ ، بمعنى احتاج .ينظر المعجم العربي الأساسي ( عوز)

 

[2] ) المعجم الوسيط : مادة (عمم) .

[3] ) المعجم العربي الأساسي: مادة (عمم)

[4]) قال تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } الأنعام – من الآية 164 .

[5]) { ..قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } [البقرة : 111]

[6] ) تحريفات العامية للفصحى فى القواعد و البنيات و الحروف و الحركات، شوقي ضيف ، القاهرة ، دار المعارف 1994 م ، ص 129 .

[7] ) هذا العدد ترجيحي فقد يحتاج إلى أقل من ذلك ، وهو يتوقف على استيفاء المواقف اللغوية الأساسية في ضوء
الاستفادة من الشيوع في اللغة الدارجة الفصيحة في آن واحد.

[8] ) معلوم أنه كلما كانت المفردة أكثر شيوعاً في اللغة الدارجة فإن هذا يعني أنها أكثر وفاء للاحتياج اللغوي.
لدى المتعلم المبتدئ من الفئة الرابعة التي يستهدفها هذا البحث.

[9] ) من ذلك ما جاء في القرآن في السؤال عن حال المؤنَّث : { وقالَ الإنسانُ ما لَها ؟ } [ الزلزلة : 3]

([10] تشتمل بعض الكتب المشهورة كمعجم أحمد تيمور باشا وكتاب شوقي ضيف ،مرجع سابق على كمّ كبير من هذه المفردات والعبارات.

[11] ) تقدم إيراد رغبات هذه الفئة في ص 3 من هذه الورقة البحثية .